mardi 1 mai 2007

هنري ميلر

في ضيافة هنري ميلر

أفق ... نواف يونس
المبدع وصعوبة العيش

يظل الكاتب هنري ميلر من أكثر الكتاب الذين عانوا من نبذ وسائل الاعلام الامريكية له طوال فترة حياته، حتى وبعد أن عاد الى وطنه كاتباً كبيراً، بعد أن احتوته أوروبا لأكثر من ثلاثين عاماً، بنى فيها مجده الأدبي الذي جعله من الكتاب الكبار في العالم، حيث ترجمت أعماله لأغلب اللغات الحية، وسجلت أعلى الأرقام في مبيعاتها، مما أهله لأن يعيش في وطنه معتزلاً ومعتكفاً عن الاعلام الأمريكي أو الاعتراف الرسمي به، إلا عن مشاركته في مسيرات اعتراضية شعبية حول سياسة بلده نحو القضايا الانسانية في العالم.
يقول هنري ميلر في أحد أحاديثه الاعلامية وهي قليلة “لقد انتظرت حتى أبلغ الستين من عمري لكي أحقق هذا النجاح المتأخر، والذي مكنني من أن أعيش على ريع كتبي”، لقد عانى ميلر كثيراً وهو يسير في الشوارع يبحث عن أي مبلغ يمنحه كسرة خبز، أو عن ركن يهوي فيه بجسده المنهك، فقد اضطر للعمل كسائق حافلة وجمع القمامة أحياناً وباع الكتب في المحلات الصغيرة، حتى يقتات قوت يومه، وكم من مرة تعرض للطرد لعدم تسديده أجرة غرفته في تلك الفنادق الوضيعة في باريس عاصمة النور، إلا أنه كان مؤمناً بمشروعه الأدبي الذي يحسه ويعيشه لحظة بلحظة وكل يوم.
في كتاب بعنوان “في ضيافة هنري ميلر” يسجل الصحافي بسكال فريبوس حواره الأخير مع ميلر، والكتاب من ترجمة الكاتب المغربي سعيد بوكرامي، حيث توفي “ميلر” عن عمر يناهز الخامسة والثمانين، وبعد هذا الحوار بأشهر قليلة، وفيه يستعرض حياته التي عاشها منفياً عن وطنه في أوروبا عموماً وباريس خصوصاً وفيها يصارح جمهوره بأنه كان يضع قائمة بأسماء الأصدقاء الكرماء الذين سيزورهم ليأكل عندهم، حتى لا يتكرر الغداء عند أحدهم أكثر من مرة كل أسبوع أو عشرة أيام، بل إنه يذكر مناوراته مع أصدقائه الذين يدعوهم الى غداء في مطعم ما، وما يكاد يشبع حتى يستأذن لقضاء حاجته ثم يهرب ويورطهم في تسديد ثمن الغداء.
ويستعرض في الكتاب بعض الحكايات الساخرة التي عاشها في زمن الصعلكة، فقد تسلل مرة الى إحدى الكنائس وجلس في منصة الاعتراف بعد ان استولى على جبة القس وحضرت احدى السيدات لتكفر عن اخطائها مع احدى جاراتها، فما كان منه وهو يمثل دور القس، إلا أن جعلها تستعرض تفاصيل حياتها الزوجية والأسرية والاجتماعية والمهنية، ولمس كم كانت هذه السيدة شقية وتعيسة، فأخذ يشجعها ويطلب لها الصفح والغفران، حتى نجح في منحها لحظة التطهير والإيمان والرضى عن النفس، بعد ان خفف من آلامها وحزنها، وزاد من إيمانها وأعاد لها روحها النقية.
لقد تعلمنا الكثير من كتابات ميلر، التي نمت لدينا الخيال واللغة المتوهجة الحرة والتواصل الانساني والفكري مع ما يحيط بنا من أحداث وشخصيات ومواقف بقدر ما يكون الانسان فيها ضعيفاً بقدر ما تمنحه الشعور بالقوة، لأن الانسان (كما يقول ميلر) إما أن ان يموت بمرارة طعم الظروف التي يعيشها أو يصبح بها قوياً.